فصل: السنة التاسعة من خلافة العاضد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 السنة التاسعة من خلافة العاضد

وهي سنة أربع وستين وخمسمائة‏.‏

فيها ملك السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي الشهيد قلعة جعبر من صاحبها ابن مالك العقيلي‏.‏

وفيها قدم أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب لقتال الفرنج‏.‏

وهذه قدمته إلى مصر الثالثة التي ملك فيها مصر حسب ما تقدم ذكره في ترجمة العاضد‏:‏ من قتله لشاور وتوليته الوزر للعاضد ووفاته بديار مصر وتولية صلاح الدين يوسف بعده‏.‏

وفيها توفي حميد بن مالك بن مغيث بن نصر بن منقذ الأمير أبو الغنائم الكناني‏.‏

مولده بشيزر ثم انتقل منها وسكن دمشق ثم رحل إلى حلب ومات بها في شعبان‏.‏

وكان أديبًا فاضلا شاعرًا‏.‏

وفيها توفي عبد الخالق بن أسد بن ثابت الإمام أبو محمد الدمشقي الحنفي‏.‏

كان فقيهًا مفتنًا عارفًا بالحديث وفنون العلوم ودرس بالصادرية بدمشق ومات بها‏.‏

ومن شعره‏:‏ الكامل قال العوافل ما اسم من أضنى فؤادك قلت أحمد قالوا أتحمده وقد أضنى فؤادك قلت أحمد الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي الأمير مجير الدين آبق بن محمد بن بوري بن طغتكين الذي أخذ منه نور الدين دمشق ثم صار أميرًا ببغداد‏.‏

والملك أبو شجاع شاور بن مجير بن نزار السعدي وزير العاضد قتله جرديك النوري‏.‏

والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي فجأة بعد شاور بشهرين‏.‏

وأبو محمد عبد الخالق بن أسد الحنفي الحافظ في المحرم‏.‏

وأبو الحسن علي بن محمد بن علي البلنسي المقرئ في رجب وله أربع وتسعون سنة‏.‏

وقاضي القضاة زكي الدين علي بن المنتخب محمد بن يحيى القرشي الدمشقي في شوال غريبًا ببغداد وله سبع وخمسون سنة‏.‏

وأبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن البطي الحاجب مسند العراق في جمادى الأولى وله سبع وثمانون سنة‏.‏

والحافظ أبو أحمد معمر بن عبد الواحد القرشي بن الفاخر الأصبهاني في ذي القعدة بطريق الحجاز وله سبعون سنة‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم ست أذرع وثماني أصابع‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا واثنتا عشرة إصبعًا‏.‏

السنة العاشرة من خلافة العاضد وقد وزر له الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ولم يكن له مع صلاح الدين إلا مجرد الاسم فقط‏.‏

وهي سنة خمس وستين وخمسمائة‏.‏

فيها نزل الفرنج على دمياط يوم الجمعة في ثالث صفر وجدوا في القتال وأقاموا عليها ثلاثة وخمسين يومًا يحاصرونها ليلا ونهارًا‏.‏

ونذكر هذه الواقعة بأوسع من هذا في أول ترجمة صلاح الدين إن شاء الله‏.‏

وفيها توفي حماد بن منصور البزاعي الحلبي ويعرف بالخراط‏.‏

كان أديبًا شاعرًا فصيحًا‏.‏

ومن شعره في كريم‏:‏ الخفيف ما نوال الغمام وقت ربيع كنوال الأمير وقت سخاء فنوال الأمير بدرة مال ونوال الغمام قطرة ماء قلت‏:‏ ومن الغاية في هذا المعنى قول الشيخ علاء الدين علي الوداعي‏:‏ البسيط من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من منن فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن وفيها توفي محمد بن إبراهيم بن هانئ أبو القاسم المغربي‏.‏

كان من شعراء الخلفاء الفاطميين‏.‏

ومن شعره من أول قصيدة مدح بها بعض خلفاء مصر‏:‏ الرمل امسحوا عن ناظري كحل السهاد وانفضوا عن مضجعي شوك القتاد أو خذوا مني الذي أبقيتم ما أحدث الجسم مسلوب الفؤاد وفيها توفي مودود بن زنكي بن آق سنقر الملك قطب الدين صاحب الموصل وأخو السلطان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد‏.‏

ولما احتضر مودود هذا أوصى بالملك لولده عماد الدين زنكي وكان أكبرهم وأعزهم عليه‏.‏

وكان الحاكم على الموصل فخر الدين عبد المسيح وكان يكره عماد الدين زنكي هذا وكان عماد الدين قد أقام عند عمه نور الدين محمود بحلب مدة وتزوج بابنته فلا زال فخر الدين المذكور بقطب الدين مودود حتى جعل العهد من بعده لولده سيف الدين غازي وعزل عماد الدين زنكي فعز ذلك على نور الدين وقصد الموصل وقال‏:‏ أنا أحق بتدبير ملك أولاد أخي‏.‏

الذين ذكرهم الذهبي في هذه السنة قال‏:‏ وفيها توفي أبو بكر عبد الله ابن محمد بن النقور البزاز في شعبان عن إحدى وثمانين سنة‏.‏

وأبو المكارم عبد الواحد بن محمد بن المسلم بن الحسن بن هلال الأزدي العدل في جمادى الآخرة‏.‏

وأبو القاسم محمود بن عبد الكريم الأصبهاني التاجر‏.‏

وصاحب الموصل قطب الدين مودود ابن أتابك زنكي‏.‏

أمر النيل في هذه السنة‏:‏ الماء القديم خمس أذرع وثماني عشرة إصبعًا‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وأربع عشرة إصبعًا‏.‏

وتحكم وزيره الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب‏.‏

وهي سنة ست وستين وخمسمائة‏.‏

فيها سار الملك العادل نور الدين محمود من دمشق إلى الموصل وسلمها لابن أخيه عماد الدين زنكي بعد أمور وقعت بينه وبين فخر الدين عبد المسيح المقدم ذكره في الماضية‏.‏

وفيها بنى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب مدرسة للشافعية وكان موضعها حبس المعونة وبنى بها أيضًا مدرسة للمالكية تعرف بدار الغزل وولى صدر الدين عبد الملك بن درباس الكردي القضاء بالقاهرة‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة خرج صلاح الدين يوسف بن أيوب بعساكر العاضد إلى الشام فأغار على غزة وعسقلان والرملة ومضى إلى أيلة وكان بها قلعة فيها جماعة من الفرنج والتقاه الأسطول في البحر فافتتحها وقتل من فيها وشحنها بالرجال والعدد وكان على درب الحجاز منهم خطر عظيم‏.‏

ثم عاد صلاح الدين إلى مصر في جمادى الآخرة‏.‏

وفيها في شعبان اشترى تقي الدين عمر بن شاهنشاه منازل العز بمصر وعملها مدرسة للشافعية‏.‏

وفيها توفي الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين أبو المظفر يوسف ابن المقتفي لأمر الله محمد ابن المستظهر بالله أحمد ابن المقتدي بأمر الله عبد الله الهاشمي العباسي البغدادي‏.‏

استخلف يوم مات أبوه في شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة‏.‏

ومولده في سنة ثماني عشرة وخمسمائة‏.‏

وأمه أم ولد تسمى طاوس كرجية أدركت خلافته‏.‏

وكان المستنجد أسمر طويل اللحية معتدل القامة شجاعًا مهيبًا عادلا في الرعية ذكيًا فصيحًا فطنًا أزال المظالم والمكوس‏.‏

وكانت وفاته في يوم السبت ثامن شهر ربيع الآخر ودفن بداره‏.‏

وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهرًا‏.‏

أمر النيل ني هذه السنة‏:‏ الماء القديم سبع أذرع سواء‏.‏

مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وإحدى وعشرون إصبعًا‏.‏

ولاية أسد الدين شيركوه على مصر وقد اختلف المؤرخون في أمر ولايته على مصر فمنهم من عده من الأمراء ومنهم من ذكره من الوزراء‏.‏

ولهذا أخرنا ترجمته إلى هذه السنة ولم نسلك فيها طريق أمراء مصر‏.‏

وقد ذكرنا من تردده إلى مصر وقتله لشاور وتوليته الوزارة من قبل العاضد نبذة كبيرة في ترجمة العاضد المذكور‏.‏

ونذكر ترجمته الآن على هيئة تراجم أمراء مصر ففي مساق هذه الترجمة وفي سياق تلك الترجمة جمع بين القولين وللناظر فيهما الاختيار فمن شاء يجعله وزيرًا ومن شاء يجعله أميرًا‏.‏

هو الملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي بن مروان عم السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب‏.‏

يأتي بقية نسبه وما قيل في أصله في ترجمة ابن أخيه صلاح الدين المذكور من أقوال كثيرة‏.‏

وقد تقدم من حديثه نبذة كبيرة‏.‏

ونسوق ذلك كله على سبيل الاختصار فنقول‏:‏ كان شاور قد توجه إلى الشام يستنجد نور الدين في سنة تسع وخمسين وخمسمائة فنجده بأسد الدين شيركوه هذا بالعساكر ووصلوا إلى مصر في الثاني من جمادى الآخرة من سنة تسع وخمسين وغدر بهم شاور ولم يف بما وعدهم به فعادوا إلى دمشق وعرفوا نور الدين بذلك‏.‏

ثم إن شاور ألجأته الضرورة لطلبهم ثانيًا خوفًا من الفرنج فعاد أسد الدين ثانيًا إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وستين وسلك طريق وادي الغزلان وخرج عند وادي إطفيح فكالت بينه وبينهم وقعة هائلة‏.‏

وتوجه صلاح الدين إلى الإسكندرية واحتمى بها وحاصره شاور لأنه كان قد وقع بينهم وبينه أيضًا واصطلح عليهم مع الفرنج‏.‏

ثم رجع أسد الدين من الصعيد نجمة لابن أخيه صلاح الدين وأخذه وسار إلى بلبيس حتى وقع الصلح بينه وبين المصريين وعاد إلى الشام‏.‏

فحنق نور الدين لذلك ولم يمكنه الكلام لاشتغاله بفتح السواحل ودام ذلك إلى أن وصل الفرنج إلى مصر وملكوها في سنة أربع وستين وقتلوا أهلها‏.‏

أرسل العاضد يطلب النجدة من نور الدين فنجدهم بأسد الدين شيركوه وهي ثالث مرة فمضى إليهم أسد الدين وطرد الفرنج عنهم وملك مصر في شهر ربيع الأول من سنة أربع وستين وخمسمائة‏.‏

وعزم شاور على قتل أسد الدين وقتل أصحابه أكابر أمراء نور الدين معه ففطن أسد الدين لذلك فاحترز على نفسه‏.‏

وعلم ذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب أيضًا فاتفق صلاح الدين يوسف مع الأمير جرديك النوري على مسك شاور وقتله واتفق ركوب أسد الدين إلى زيارة قبر الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وكان شاور يركب في كل يوم إلى أسد الدين فلما توجه إليه في هذا اليوم المذكور قيل له‏:‏ إنه توجه إلى الزيارة‏.‏

فطلب العود فلم يمكنه صلاح الدين وقال‏:‏ انزل الساعة يحضر عمي‏.‏

فامتنع فجذبه هو وجرديك فأنزلوه عن فرسه وقبضوا عليه وقتلوه بعد حضور أسد الدين‏.‏

وقد تقدم ذكر ذلك كله مفصلا في ترجمة العاضد‏.‏

وخلع العاضد على الأمير أسد الدين شيركوه المذكور بالوزارة ولقبه بالملك المنصور‏.‏

فلم تطل مدته ومات بعد شهرين فجأة في يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة - وقيل‏:‏ يوم الأحد ثالث عشرينه - سنة أربع وستين وخمسمائة ودفن بالقاهرة ثم نقل إلى المدينة‏.‏

وقال ابن شداد‏:‏ كان أسد الدين شيركوه كثير الأكل كثير المواظبة على أكل اللحوم الغليظة فتواتر عليه التخم والخوانيق وهو ينجو منها بعد مقاساة شدة عظيمة ثم اعترضه بعد ذلك مرض شديد واعتراه خانوق فقتله في التاريخ المقدم ذكره‏.‏

قلت‏:‏ ولما مات تولى ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب الوزارة من بعده‏.‏

وكان أسد الدين أميرًا عاقلا شجاعًا مدبرًا عارفًا فطنًا وقورًا‏.‏

كان هو وأخوه أيوب من أكابر أمراء نور الدين محمود الشهيد وهو الذي أنشأهم حتى صار منهم ما صار‏.‏

رحمهم الله تعالى‏.‏

سلطنة صلاح الدين على مصر هو السلطان الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدين يوسف ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان ويقال‏:‏ إن مروان من أولاد خلفاء بني أمية‏.‏

وقال ابن القادسي‏:‏ كان شادي مملوك بهروز الخادم‏.‏

قال صاحب مرآة الزمان‏:‏ ‏"‏ وهذا من غلطات ابن القادسي ما كان شادي مملوكًا قط ولا جرى على أحد من بني أيوب رق وإنما شادي خدم بهروز الخادم فاستنابه بقلعة تكريت ‏"‏‏.‏

انتهى‏.‏

قلت‏:‏ كان بداية أمر بني أيوب أن نجم الدين أيوب والد صلاح الدين هذا وأخاه أسد الدين شيركوه - ونجم الدين هو الأكبر - كان أصلهم من دوين‏:‏ بلدةٍ صغيرة في العجم وقيل‏:‏ هو من الأكراد الروادية وهو الأصح‏.‏

فقدم نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين - شيركوه إلى العراق وخدما مجاهد الدين بهروز الخادم شحنة بغداد فرأى بهروز من نجم الدين رأيًا وعقلًا فولاه دزدارًا بتكريت وكانت تكريت لبهروز أعطاها له السلطان مسعود بن غياث الدين محمد ابن ملكشاه - المقدم ذكره - السلجوقي‏.‏

وبهروز كان يلقب مجاهد الدين‏.‏

وكان خادمًا روميًا أبيض ولاه السلطان مسعود شحنة العراق‏.‏

وبهروز ‏"‏ بكسر الباء الموحدة وسكون الهاء وضم الراء وسكون الواو وبعدها زاي ‏"‏ وهو لفظ عجمي معناه‏:‏ يوم جيد‏.‏

فأقام نجم الدين بتكريت ومعه أخوه أسد الدين إلى أن انهزم الأتابك زنكي بن آق سنقر من الخليفة المسترشد في سنة ست وعشرين وخمسمائة ووصل إلى تكريت وبه نجم الدين أيوب فأقام له المعابر فعبر زنكي بن آق سنقر ‏"‏ دجلة ‏"‏ من هناك وبالغ نجم الدين في إكرامه فرأى له زنكي ذلك‏.‏

وأقام نجم الدين بعد ذلك بتكريت إلى أن خرج منها بغير إذن بهروز‏.‏

وسببه أن نجم الدين كان يرمي يومًا بالنشاب فوقعت نشابة في مملوك بهروز فقتلته من غير قصد فاستحى نجم الدين من بهروز فخرج هو وأخوه إلى الموصل‏.‏

وقيل غير ذلك‏:‏ إن بهروز أخرجهما لمعنى من المعاني وقيل في ولما خرجا من تكريت قصدًا الأتابك بن آق سنقر - المقدم ذكره - وهو والد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي المعروف بالشهيد فأحسن إليهما زنكي وأقطعهما إقطاعات كثيرة وصارا من جملة أجناده إلى أن فتح زنكي مدينة بعلبك وولى نجم الدين أيوب دزدارًا بقلعتها والدزدار بضم الدال المهملة وسكون الزاي وفتح الدال المهملة وبعدها ألف وراء مهملة ومعناها بالعجمي‏:‏ ماسك القلعة‏.‏

ودام نجم الدين ببعلبك إلى أن قتل زنكي على قلعة جمبر‏.‏

وتوجه صاحب دمشق ‏"‏ يومئذ مجير الدين ‏"‏ وحصر نجم الدين المذكور في بعلبك وضايقه فكتب نجم الدين إلى نور الدين الشهيد بن زنكي وسيف الدين غازي يطلب‏.‏

منهما نجدة فاشتغلا عنه بملك جديد واشتد الحصار على بعلبك فخاف نجم الدين من فتحها عنوة وتسليم أهلها فصالح مجير الدين صاحب دمشق على مال وانتقل هو وأخوه أسد الدين شيركوه إلى دمشق وصارا من كبار أمرائها‏.‏

ولا زال بها أسد الدين شيركوه حتى اتصل بخدمة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وصار من أكابر دولته‏.‏

فرأى منه محمود نجابة وشجاعة فأعطاه حمص والرحبة وجعله مقدم عساكره‏.‏

فلما صرف نور الدين همته لأخذ دمشق أمر أسد الدين أن يكاتب أخاه نجم الدين أيوب على المساعدة على فتحها فكتب أسد الدين إلى أخيه وقال له‏:‏ هذا يجب عليك فإن مجير الدين قد أعطى الفرنج بانياس وربما سلم إليهم دمشق بعد ذلك فأجابه نجم الدين‏.‏

وطلبا من نور الدين إقطاعًا وأملاكًا فأعطاهما وحلف لهما ووفى بيمينه‏.‏

وأما مجير الدين المذكور صاحب دمشق فكان اسمه آبق بن محمد بن بوري بن الأتابك ظهير الدين طغتكين‏.‏

وطغتكين مولى تتش بن ألب أرسلان أخي ملكشاه السلجوقي‏.‏

ولما ملك نور الدين محمود دمشق وفى لهما بما وعدهما وصارا من أكابر أمرائه خصوصًا نجم الدين فإن جميع الأمراء كانوا إذا دخلوا على نور الدين لا يقعد أحد حتى يأمره نور الدين بالقعود إلا نجم الدين هذا فإنه كان إذا دخل قعد من غير إذن‏.‏

وداما عند نور الدين في أعلى المنازل إلى أن وقع من أمر شاور وزير مصر ما وقع - وقد حكيناه في ترجمة العاضد العبيدي - ودخول أسد الدين شيركوه إلى الديار المصرية ثلاث مرات ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف هذا حتى ملك أسد الدين الديار المصرية في الثالثة وقتل شاور وولي أسد الدين وزارة مصر ولقب بالمنصور ومات بعد شهرين فولى العاضد الخليفة صلاح الدين هذا الوزارة ولقبه الملك الناصر وذلك في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة‏.‏

واستولى على الديار المصرية ومهد أمورها‏.‏

وصار يدعى للعاضد ثم من بعده للملك العادل نور الدين محمود ثم من بعدهما لصلاح الدين هذا‏.‏

ونذكر ولايته إن شاء الله بأوسع من هذا من كلام ابن خلكان بعد أن نذكر نبذة من أموره‏.‏

واستمر صلاح الدين بمصر وأرسل يطلب أباه نجم الدين أيوب من الملك العادل نور الدين محمود الشهيد فأرسله إليه معطمًا مبجلًا وكان وصوله أعني نجم الدين إلى القاهرة في شهر رجب سنة خمس وستين وخمسمائة فلما قرب نجم الدين إلى الديار المصرية خرج ابنه السلطان صلاح الدين بجميع أمراء مصر إلى ملاقاته وترجل صلاح الدين وجميع الأمراء ومشوا في ركابه ثم قال له ابنه صلاح الدين‏:‏ هذا الأمر لك يعني الوزارة وهي السلطنة الآن وتدبير ملك مصر ونحن بين يديك فقال له نجم الدين‏:‏ يا بني ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت أهل له‏.‏

وأبى نجم الدين عن قبول السلطنة غير أنه حكمه ابنه صلاح الدين في الخزائن فكان يطلق منها ما يختار من غير مراجعة صلاح الدين‏.‏

وكانت الفرنج تولت على دمياط في ثالث صفر من السنة المذكورة وجدوا في قتالها وأقاموا عليها نحو الشهرين يحاصرونها بالمجانيق ويزحفون عليها ليلًا ونهارًا وصلاح الدين يوجه إليها العساكر مع خاله شهاب الدين وابن أخيه تقي الدين وطلب من العاضد مالًا فبعث إليه شيئًا كثيرًا حتى قال صلاح الدين‏:‏ ما رأيت أكرم من العاضد‏!‏ جهز إلي في حصار الفرنج لدمياط ألف ألف دينار سوى الثياب وغيرها‏.‏

ولما سمع نور الدين بما وقع لدمياط أخذ في غزو الفرنج بالغارات عليهم‏.‏

ثم وقع فيهم الوباء والفناء فرحلوا عن دمياط بعد أن مات منهم خلق كثير‏.‏

كل ذلك في حياة العاضد في أوائل أمر صلاح الدين‏.‏

ثم أخذ السلطان صلاح الدين في إصلاح أحوال مصر وعمارة البلادة وبينا هو في ذلك ورد عليه كتاب الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من دمشق فأمره فيه بقطع خطبة العاضد وإقامتها لبني العباس خلفاء بغداد فخاف صلاح الدين من أهل مصر إلا يجيبوه إلى ذلك وربما وقعت فتنة فعاد الجواب لنور الدين يخبره بذلك فلم يسمع له نور الدين وأرسل إليه وخشن له في القول وألزمه بذلك إلزامًا كليًا إلى أن وقع ذلك وقطعت خطبة العاضد في أول المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة‏.‏

وكان العاضد مريضًا فأخفى عنه أهله ذلك حتى مات يوم عاشوراء فندم صلاح الدين على قطع خطبته وقال‏:‏ ليتني صبرت حتى مات‏.‏

وقد ذكرنا ذلك كله مفصلًا في ترجمة العاضد السابقة لهذه الترجمة‏.‏

ومن هنا نذكر - إن شاء الله تعالى - أقوال المؤرخين في أحوال السلطان صلاح الدين هذا وغزواته وأموره كل مؤرخ على حدته‏.‏

ومن يوم مات العاضد عظم أمر صلاح الدين واستولى على خزائن مصر واستبد بأمورها من غير منازع‏.‏

غير أنه كان من تحت أوامر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي المعروف بالشهيد صاحب دمشق على ما سنبينه في هذا المحل‏.‏

وكان يدعو له الخطيب بمصر وأعمالها وكان مولد صلاح الدين بتكريت في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ونشأ في حجر أبيه نجم الدين أيوب في الدولة النورية وترقى فيها وكان ولاه نور الدين قبل خروجه مع عمه أسد الدين شيركوه الثالثة إلى ديار مصر شحنجية دمشق فرجع عنها غضبًا على ما سنذكره إن شاء الله‏.‏

قال العلامة أبو المظفر شمس الدين يوسف بن قزأوغلي في تاريخه مرآة الزمان‏:‏ ‏"‏ كان السلطان صلاح الدين شجاعًا شهمًا مجاهدًا في سبيل الله وكان مغرمًا بالإنفاق في سبيل الله وحسب ما أطلقه ووهبه مدة مقامه على عكا مرابطًا للفرنج من شهر رجب سنة خمس وثمانين إلى يوم انفصاله عنها في شعبان سنة ثمان وثمانين فكان اثني عشر ألف رأس من الخيل العراب والأكاديش الجياد للحاضرين معه للجهاد غير ما أطلقه من الأموال‏.‏

قال العماد الكاتب‏:‏ لم يكن له فرس يركب إلا وهو موهوب ولا جاءه قود إلا وهو مطلوب وما كان يلبس إلا ما يحل لبسه كالكتان والقطن والصوف وكانت مجالسه منزهة عن الهزء والهزل ومحافله حافلة بأهل العلم والفضل ويؤثر سماع الحديث‏.‏

وكان من جالسه لا يعلم أنه جالس سلطانًا لتواضعه‏.‏

قال‏:‏ ورأى معي يومًا دواة محلاة بفضة فأنكر علي وقال‏:‏ ما هذا‏!‏ فلم أكتب بها عنده بعدها‏.‏

وكان محافظًا على الصلوات في أوقاتها لا يصلي إلا في جماعة وكان لا وذكره القاضي ابن شداد في السيرة فقال‏:‏ كان حسن العقيدة كثير الذكر لله تعالى وإذا جاء وقت صلاة وهو راكب نزل فصلى وما قطعها إلا في مرضه الذي مات فيه ثلاثة أيام اختلط فإنه فيها‏.‏

وكان قد قرأ عقيدة القطب النيسابوري وعلمها أولاده الصغار لترسخ في أذهانهم وكان يأخذها عليهم‏.‏

وأما الزكاة فإنه مات ولم تجب عليه قط‏.‏

وأما صدقة النوافل فاستنفدت أمواله كفها فيها‏.‏

وكان يحب سماع القرآن واجتاز يومًا على صبي صغير بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن فاستحسن قراءته فوقف عليه وعلى أبيه مزرعة‏.‏

وكان شديد الحياء خاشع الطرف رقيق القلب سريع الدمعة شديد الرغبة في سماع الحديث‏.‏

وإذا بلغه عن شيخ رواية عالية وكان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه وأسمع أولاده ومماليكه ويأمرهم بالقعود عند سماع الحديث إجلالًا له وإن لم يكن ممن يحضر عنده ولا يطرق أبواب الملوك سعى إليه‏.‏

وكان مبغضًا لكتب الفلاسفة وأرباب المنطق ومن يعاند الشريعة‏.‏

ولما بلغه عن السهرودي ما بلغه أمر ولده الملك الظاهر بقتله‏.‏

وكان محبًا للعدل يجلس في كل يوم اثنين وخميس أفي مجلس عام يحضره القضاة والفقهاء ويصل إليه الكبير والصغير والشيخ والعجوز وما استغاث إليه أحد إلا أجابه وكشف ظلامته واستغاث إليه ابن زهير الدمشقي على تقي الدين عمر ‏"‏ ابن أخيه ‏"‏ وقال‏:‏ ما يحضر معي مجلس الشرع فأمر تقي الدين بالحضور معه‏.‏

وادعى رجل على السلطان صلاح الدين المذكور بأن سنقر الخلاطي مملوكه ومات على ملكه‏.‏

قال ابن شداد‏:‏ فأخبرته فأحضر الرجل وقد خرج عن طراحته وساواه في الجلوس فادعى الرجل فرفع السلطان رأسه إلى جماعة الأمراء والشيوخ الأخيار وهم وقوف على رأسه فقال‏:‏ أتعرفون سنقر الخلاطي قالوا‏:‏ نشهد أنه ملوكك وأنه مات على ملكك‏.‏

ولم يكن للرجل المدعي بينة فأسقط في يده‏.‏

فقلت‏:‏ يا مولانا رجل غريب وقد جاء من خلاط في طمع ونفدت نفقته وما يحسن أن يرجع خائبًا فقال‏:‏ يا قاضي هذا إنما يكون على غير هذا الوجه ووهب له نفقة وخلعة وبغلة وأحسن إليه‏.‏

قال‏:‏ وفتح آمد ووهبها لابن قرا أرسلان‏.‏

واجتمع عنده وفود بالقدس ولم يكن عنده مال فباع ضيعة وفرق ثمنها فيهم‏.‏

قال ابن شداد‏:‏ وسألت باليان بن بارزان يوم انعقاد الصلح عن عدة الفرنج الذين كانوا على عكا وهو جالس بين يدي السلطان فقال للترجمان‏:‏ قل له كانوا من خمسمائة ألف إلى ستمائة ألف قتل منهم أكثر من مائة ألف وغرق معظمهم‏.‏

قال‏:‏ وكان يوم المصاف يدور على الأطلاب ويقول‏:‏ وهل أنا إلا واحد منكم وكان في الشتاء يعطي العساكر دستورًا وهو نازل على برج عكا ويقيم طول الشتاء في نفر يسير‏.‏

وكان على الرملة فجاءه كتاب بوفاة تقي الدين ‏"‏ ابن أخيه ‏"‏ فقال وقد خنقته العبرة‏:‏ مات تقي الدين اكتموا خبره مخافة العدو‏.‏

قال‏:‏ ولقد واجهه الجناح على يافا بذلك الكلام القبيح فما قال له كلمة واستدعاه فأيقن بالهلاك وارتقب الناس أن يضرب رقبته فأطعمه فاكهة قدمت من دمشق وسقاه ماء وثلجًا‏.‏

قال‏:‏ وكان للمسلمين لصوص يدخلون خيام الفرنج بالليل وشرقونهم فسرقوا ليلة صبيًا رضيعًا فباتت أمه تبكي طول الليل فقال لها الفرنج‏:‏ إن سلطانهم رحيم القلب فاذهبي إليه فجاءته وهو على تل الخروبة راكب فعفرت وجهها وبكت فسأل عنها فأخبر بقصتها فرق لها ودمعت عيناه وتقدم إلى مقدم اللصوص بإحضار الطفل ولم يزل واقفًا حتى أحضروه فلما رأته بكت وشهقت وأخذته وأرضعته ساعة وضمته إليها وأشارت إلى ناحية الفرنج فأمر أن تحمل على فرس وتلحق بالفرنج ففعلوا‏.‏

قال ابن شداد‏:‏ وكان حسن العشرة طيب الخلق حافظًا لأنساب العرب عارفًا بخيولهم طاهر اللسان والقلم فما شتم أحدًا قط ولا كتب بيده ما فيه أذى مسلم‏.‏

وما حضر بين يديه يتيم إلا وترحم على من خلفه وجبر قلبه وأعطاه ما يكفيه فإن كان له كافل ‏"‏ سلمه إليه ‏"‏ وإلا كفله‏.‏

وسرق يومًا من خزائنه ألفًا دينار وجعل في الكيس فلوس فما قال شيئًا‏.‏

انتهى كلام ابن شداد قال أبو المظفر‏:‏ وحكى لي المبارز سنقر الحلبي - رحمه الله تعالى - قال‏:‏ كان الحجاب يزدحمون على طراحته فجاء سنقر الخلاطي ومعه قصص فقدم إليه قصة وكان السلطان مد يده اليمنى على الأرض ليستريح فداسها سنقر الخلاطي ولم يعلم وقال له‏:‏ علم عليها فلم يجبه فكرر عليه القول فقال له‏:‏ يا طواشي أعلم بيدي أم برجلي فنظر سنقر فرأى يد السلطان تحت رجله فخجل وتعجب الحاضرون من هذا الحلم ثم قال السلطان‏:‏ هات القصة فعلم عليها ‏"‏‏.‏

وقال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان - رحمه الله - في تاريخه‏:‏ لا وصلاح الدين كان واسطة العقد وشهرته أكبر من أن يحتاج إلى التنبيه عليه‏.‏

اتفق أهل التاريخ على أن أباه وأهله من دوين ‏"‏ بضم الدال المهملة وكسر الواو وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها نون ‏"‏ وهي يلحق في آخر عمل أذربيجان من جهة أران وبلاد الكرج وأنهم أكراد روادية ‏"‏ بفتح الراء والواو وبعد الألف دال مهملة مكسورة ثم ياء مثناة من تحتها مشددة ثم هاء ‏"‏‏.‏

والروادية‏:‏ بطن من الهذبانية لفتح الهاء والذال المعجمة والباء الموحدة وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء مثناة مشددة من تحتها وبعدها هاء وهي قبيلة كبيرة من الأكراد‏.‏

وقال لي رجل عارف بما يقول وهو من أهل دوين‏:‏ إن على باب دوين قرية يقال لها‏:‏ أجدانقان ‏"‏ بفتح الهمزة وسكون الجيم وفتح الدال المهملة وبعد الألف نون مفتوحة ثم قاف وبعد الألف الثانية نون أخرى ‏"‏ وجميع أهلها أكراد روادية ومولد أيوب والد صلاح الدين بها وشادي أخذ ولديه ‏"‏ منها ‏"‏‏:‏ أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخرج بهما إلى بغداد ومن هناك إلى تكريت‏.‏

ومات شادي بها وعلى قبره قبة داخل البلد‏.‏

ولقد تتبعت نسبهم كثيرًا فلم أجد أحدًا ذكر بعد شادي أبا آخر حتى إني وقفت على كتب كثيرة بأوقاف وأملاك باسم شيركوه وأيوب فلم أر فيها سوى شيركوه بن شادي أو أيوب بن شادي لا غير‏.‏

وقال لي بعض أعوانهم‏:‏ هو شادي بن مروان وقد ذكرته في ترجمة أيوب وشيركوه‏.‏

قال‏:‏ ورأيت مدرجًا رتبه الحسن بن غريب بن عمران الحرشي يتضمن أن أيوب بن شادي بن مروان بن أبي علي بن عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مرة بن عوف بن أسامة بن بيهس بن الحارث صاحب الحمالة ابن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ابن سعد بن قيس بن عيلان بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ثم رفع هذا النسب إلى أن انتهى إلى آدم عليه السلام‏.‏

ثم ذكر بعد ذلك أن علي بن أحمد بن أحمد بن أبي علي يقال إنه ممدوح المتنبي ويعرف بالخراساني‏.‏

وفيه يقول من جملة قصيدة‏:‏ شرق الجو بالغبار إذا سا - - ر علي بن أحمد القمقام